فصل: الحكم الثامن: ما هي كفارة الظهار؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن القيم:
وهذا لأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فنسخ، فلم يجز أن يعاد إلى الحكم المنسوخ، وأيضا فإن (أوس بن الصامت) إنما نوى به الطلاق على ما كان عليه، وأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق، وأيضا فإنه صريح في حكمه، فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي أبطله الله بشرعه، وقضاء الله أحق، وحكم الله أوجب.
وقد دلت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} على أن الظهار حرام، بل لقد قال فقهاء الشافعية إنه من الكبائر، فمن أقدم عليه اعتبر كاذبا معاندا للشرع.
وقد اتفق العلماء على حرمته فلا يجوز الإقدام عليه، لأنه كذب وزور وبهتان، وهو يختلف عن الطلاق، فالطلاق مشروع، وهذا ممنوع، ولو أقدم الإنسان عليه يكون قد ارتكب محرما ويجب عليه الكفارة.

.الحكم الثاني: ماذا يترتب على الظهار من أحكام؟

إذا ظاهر الرجل من امرأته ترتب عليه أمران:
الأول: حرمة إتيان الزوجة حتى يكفر كفارة الظهار لقوله تعالى: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا}.
والثاني: وجوب الكفارة بالعود لقوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا...} الآية وسنتحدث عن معنى العود في الحكم الثالث إن شاء الله.
وكما يحرم المسيس فإنه يحرم كذلك مقدماته، من التقبيل، والمعانقة وغيرها من وجوه الاستمتاع، وهذا مذهب جمهور الفقهاء (الحنفية والمالكية، والحنابلة).
وقال الثوري والشافعي (في أحد قوليه): إن المحرم هو الوطء فقط، لأن المسيس كناية عن الجماع.
حجة الجمهور:
أ- العموم الوارد في الآية {من قبل أن يتماسا} فإنه يشمل جميع وجوه الاستمتاع.
ب- مقتضى التشبيه الذي هو سبب الحرمة (كظهر أمي) فكما يحرم مباشرة الأم والاستمتاع بها بجميع الوجوه، فكذلك يحرم الاستمتاع بالزوجة المظاهر منها بجميع الوجوه عملا بالتشبيه.
ج- أمر الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي ظاهر من زوجته بالاعتزال حتى يكفر.
حجة الشافعي والثوري:
أ- الآية ذكرت المسيس وهو كناية عن الجماع فيقتصر عليه.
ب- الحرمة ليست لمعنى يخل بالنكاح فأشبه الحيض، الذي يحرم الاستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة.
أقول: رأي الجمهور أحوط لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، سيما وقد نقل الإمام الفخر أن للشافعي فيه قولين: (أحدهما) أنه يحرم الجماع فقط. (والثاني) أنه يحرم جميع جهات الاستمتاعات، قال: وهو الأظهر. وكفى الله المؤمنين القتال.

.الحكم الثالث: ما المراد بالعود في الآية الكريمة؟

اختلف الفقهاء في المراد من العود في قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا} على عدة أقوال.
أ- قال أبو حنيفة: العود: هو عبارة عن العزم على استباحة الوطء والملامسة.
ب- وقال الشافعي: العود: هو أن يمسكها بعد الظهار مع القدر على الطلاق.
ج- وقال مالك وأحمد: العود: هو العزم على الوطء، أو على الوطء والإمساك.
د- وقال أهل الظاهر: العود: أن يكرر لفظ الظهار مرة ثانية فإن لم يكرر لا يقع الظهار.
والآراء الثلاثة الأولى متقاربة في المعنى لأن العود إلى الإمساك، أو الوطء، أو إبقاءها بعد الظهار بدون طلاق، كلها تدل على معنى الندم وإرادة المعاشرة لزوجه التي ظاهر منها فاللام في (لما) بمعنى (إلى).
والمعنى: يرجعون إلى تحليل ما حرموا على أنفسهم بالعزم على الوطء، وقد عدد (القرطبي) فيها سبعة أقوال.
قال الفراء: معنى الآية يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا.
دليل الظاهرية:
قال أهل الظاهر: إن العود معناه تكرار لفظ الظهار وإعادته، فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد اللفظ- يعني ظاهر مرة ثانية- وقالوا: الذي يعقل من قولهم: عاد إلى الشيء أي أنه فعله مرة ثانية كما قال تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] فإذا لم يتكرر الظهار لا يقع التحريم.
قال الزجاج: وهذا قول من لا يدري اللغة.
وقال أبو علي الفارسي: ليس هو كما ادعوا، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن عليه الإنسان قبل، وسميت الآخرة معادا ولم يكن فيها أحد ثم عاد الناس إليها، قال الهذلي:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ** سوى الحق شيئا واستراح العواذل

وقال ابن العربي: ويشبه أن يكون هذا من جهالة داود وأشياعه، وهو باطل قطعا، لأنه قد رويت قصص المظاهرين وليس فيه ذكر لعود القول منهم، وأيضا فإن المعنى يقضه؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور، فكيف يقال له: إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة.
أقول: ما قاله جمهور الفقهاء أن المراد بالعود ليس تكرار اللفظ، إنما هو العود إلى معاشرتها والعزم على وطئها هو الصحيح المعقول لغة وشرعا لأن المظاهر قد حرم على نفسه قربان الزوجة، فهو يريد أن ينقض ذلك ويعيدها إلى نفسه فيلزمه التكفير بهذا العزم.
وأما ما قاله أهل الظاهر فباطل لا يقوم عليه دليل، بل هو من آثار الفهم السقيم الذي تخبط فيه هؤلاء في كثير من الأحكام الشرعية ويكفي لبطلانه حديث (أوس بن الصامت) فإنه لم يكرر الظهار وقد ألزمه صلى الله عليه وسلم الكفارة؛ وحديث (سلمة بن صخر) فقد أمره صلى الله عليه وسلم بالكفارة مع أنه لم يكرر اللفظ وقد تقدما، وكفى بذلك حجة قاطعة، لا رأي لأحد أمام قول المعصوم صلى الله عليه وسلم.

.الحكم الرابع: هل يصح ظهار غير المسلم كالذمي والكتابي؟

ذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) إلى أن ظهار الذمي لا يقع لأن الله تعالى يقول: {الذين يظاهرون منكم} وظاهر قوله: {منكم} أن غير المسلم لا يتناوله الحكم.
وقالوا أيضا: إن الذمي ليس من أهل الكفارة، لأن فيها إعتاق رقبة، والصوم، ولما كان (الصوم) عبادة لا يصح من غير المسلم إذن فلا يصح ظهاره.
فالظهار عندهم لا يكون إلا من الزوج العاقل البالغ المسلم.
مذهب الشافعي: قال الشافعية: كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه، كذلك يقع ظهاره.
وقالوا: يكفر بالإعتاق، والإطعام، ولا يكفر بالصوم لأنه عبادة لا تصح إلا من المسلم.
قال الألوسي: والعجب من الإمام الشافعي عليه الرحمة أن يقول بصحته مع أنه يشترط النية في الكفارة، والإيمان في الرقبة، والكافر لا يملك المؤمن؟
أقول: الراجح رأي الجمهور، واستدلالهم بالكفارة في (العتق والصيام) قوي، وأما استدلالهم بمفهوم الصفة في الآية الكريمة {منكم} فليس بذاك لأن الآية وردت مورد (التهجين والشنيع) لما مر أن الظهار لم يعرف إلا عند العرب فليس فيها ما يدل لهم والله أعلم.

.الحكم الخامس: هل يصح الظهار من الأمة؟

أ- ذهب (الحنفية والحنبلية والشافعية) إلى أن الرجل لو ظاهر من أمته لا يصح، ولا يترتب عليه أحكام الظهار، لقوله تعالى: {من نسائهم} لأن حقيقة إطلاق النساء على (الزوجات) دون (الإماء) بدليل قوله تعالى: {أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن} [النور: 31] فقد غاير بينهن، فالمراد بالنساء في الآية الحرائر.
ب- وذهب مالك: إلى صحة الظهار في الأمة مطلقا لأنها مثل الحرة.
ج- وروي عن الإمام أحمد: أنه لا يكون مظاهرا، ولكن تلزمه كفارة الظهار.

.الحكم السادس: هل يقع ظهار المرأة؟

اتفق الفقهاء على أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها بقولها: (أنت علي كظهر أمي فلا كفارة عليها ولا يلزمها شيء) وكلامها لغو.
قال ابن العربي: وهو صحيح في المعنى، لأن الحل والعقد، والتحليل التحريم في النكاح من الرجال ليس بيد النساء منه شيء.
وروي عن الإمام أحمد (في أحد قوليه) أنه يجب عليها الكفارة إذا وطئها وهي التي اختارها الخرقي.

.الحكم السابع: هل الظهار مختص بالأم؟

أ- ذهب الجمهور إلى أن الظهار يختص بالأم، كما ورد في القرآن الكريم، وكما جاء في السنة المطهرة، فلو قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي كان مظاهرا، ولو قال لها: أنت علي كظهر أختي أو بنتي لم يكن ذلك ظهارا.
ب- وذهب أبو حنيفة (والشافعي في أحد قوليه): إلى أنه يقاس على الأم جميع المحارم.
فالظهار عندهم هو تشبيه الرجل زوجته في التحريم، بإحدى المحرمات عليه على وجه التأبيد بالنسب، أو المصاهرة، أو الرضاع، إذ العلة هي التحريم المؤبد.
وأما من قال لامرأته: يا أختي أو يا أمي على سبيل الكرامة والتوقير فإنه لا يكون مظاهرا، ولكن يكره له ذلك لما رواه أبو داود عن (أبي تميمة الهجيمي) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لامرأته: يا أخية، فكرة ذلك ونهى عنه.

.الحكم الثامن: ما هي كفارة الظهار؟

الكفارة هي: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا كما دلت عليه الآية.
أ- الإعتاق: وقد أطلقت الرقبة في الآية فهل تجزئ أي رقبة ولو كانت كافرة؟
ذهب الحنفية: إلى أنه يجزئ في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة، والذكر والأنثى، والكبير والصغير، ولو رضيعا لأن الاسم ينطلق على كل ذلك.
وذهب الشافعية والمالكية: إلى اشتراط الإيمان في الرقبة، فلا يصح عتق غير المؤمن حملا للمطلق على المقيد في آية القتل لقوله تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: 92] بجامع عدم الإذن في السبب في كل منهما.
وقال الحنفية: لا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة، لأنه حينئذ يلزم ذلك لزوما عقليا إذ الشيء لا يكون نفسه مطلوبا إدخاله في الوجود مطلقا ومقيدا، كالصوم في كفارة اليمين، ورد مطلقا ومقيدا بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها.
والمناقشة: بين القولين تنظر في كتب الأصول والفروع.
وأما الإمام أحمد: ففي المسألة عنه روايتان.
ب- صيام شهرين متتابعين: من عجز عن إعتاق الرقبة فعليه صوم شهرين متتابعين.
ويعتبر الشهر بالهلال فلا فرق بين التام والناقص، وإن صام بغير الأهلة فلابد من ستين يوما عند الحنفية.
وعند الشافعية والمالكية: يصوم إلى الهلال ثم شهرا بالهلال ثم يتم الأول بالعدد.
ج- إطعام ستين مسكينا: من لم يستطع صيام شهرين متتابعين بأن لم يستطع أصل الصيام، أو بأن لم يستطع تتابعه لسبب من كبر أو مرض لا يرجى زواله عادة أو بقول طبيب فعليه إطعام ستين مسكينا.
واختلف الفقهاء في قدر الإطعام لكل مسكين.
قال أبو حيان: والظاهر مطلق الإطعام وتخصصه ما كانت العادة في الإطعام وقت النزول وهو ما يشبع من غير تحديد بمد.